فصل: الحديث الحَادِي وَالْعشْرُونَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث العشْرُونَ:

أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إنَّما يُغْسَل مِنْ بَوْل الْجَارِيَة، ويُرَشُّ عَلى بَوْل الْغُلَام».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، وَله طرق:
أَحدهَا: عَن عَلّي بن أبي طَالب- كرَّم الله وَجهه- «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي بَوْل الرَّضِيع: يُنضح بَوْل الْغُلَام، ويُغسل بَوْل الْجَارِيَة».
رَوَاهُ الْأَئِمَّة: أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَأَلْفَاظهمْ مُتَقَارِبَة، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لفظ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم.
قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة: هَذَا حَدِيث حسن، رَفَعَ هِشَام الدستوَائي هَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة، ووَقفه سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، وَلم يرفعهُ.
قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: سعيد بن أبي عرُوبَة لَا يرفعهُ، وَهِشَام يرفعهُ، وَهُوَ حَافظ.
قَالَ اليبهقي: إلاَّ أَن غير معَاذ بن هِشَام- يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ عَن أَبِيه هِشَام مَوْصُولا- يرويهِ عَن هِشَام مُرْسلا. أَي: فَيكون هِشَام قد اخْتُلف عَلَيْهِ فِي رَفعه.
وَلم يعبأ الْحَاكِم أَبُو عبد الله بذلك، فَذكره مَرْفُوعا ثمَّ قَالَ:
هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: وأَبُو الْأسود الديلِي- يَعْنِي رَاوِيه عَن عَلّي- صَحَّ سَمَاعه من عَلّي، وَهُوَ عَلَى شَرطهمَا صَحِيح وَلم يخرجَاهُ. قَالَ: وَله شَاهِدَانِ صَحِيحَانِ. وهما الطريقان الآتيان بعد هَذَا.
ثَانِيهَا: عَن أبي السَّمْح رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كنت أخدم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فأُتِيَ بِحسن- أَو حُسَيْن- فَبَال عَلَى صَدره، فجئتُ أغسله، فَقَالَ: يُغسل من بولِ الْجَارِيَة، ويُرَش من بولِ الْغُلَام».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة والحاكمان: أَبُو أَحْمد فِي كناه، وَأَبُو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث أبي السَّمْح هَذَا حَدِيث حسن.
وَرَوَاهُ أَيْضا: أَبُو بكر الْبَزَّار فِي مُسْنده بِلَفْظ: «يُنْضَحُ بولُ الغلامِ، ويُغْسَلُ بولُ الْجَارِيَة». وَقَالَ: أَبُو السَّمْح لَا يُعْلَمُ حدَّث عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بِهَذَا الحَدِيث، وَلَا لهَذَا الحَدِيث إسنادٌ إلاَّ هَذَا، وَلَا يُحفظ هَذَا الحَدِيث إلاَّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي.
قُلْتُ: لَهُ حَدِيث آخر. قَالَه بَقِي بن مخلد.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا حَدِيث لَا تقوم بِهِ حجَّة، والمُحِلّ ضَعِيف، وَرِوَايَة من رَوَى الصب عَلَى بَوْل الصَّبِي، وإتباعه بِالْمَاءِ أصح.
وَتَبعهُ ابْن عبد الْحق فِي كِتَابه: الرَّد عَلَى ابْن حزم فِي الْمُحَلَّى فَقَالَ: هَذَا حَدِيث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة يَحْيَى بن الْوَلِيد بن الْمسير أَبُو الزَّعْرَاء، وَفِيه جَهَالَة، لَمْ يذكرهُ ابْن أبي حَاتِم بجَرح وَلَا تَعْدِيل، وَلَا غَيره من المتقدِّمين إلاَّ النَّسَائِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. وَفِيه أَيْضا: مُحِلّ- بميم مَضْمُومَة، ثمَّ حاء مُهْملَة مَكْسُورَة، ثمَّ لَام مُشَدّدَة، كَذَا ضَبطه صَاحب الإِمام- ابْن خَليفَة، قَالَ ابْن عبد الْبر فِيهِ: ضَعِيف. وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. انْتَهَى مَا ذكره ابْن عبد الْحق.
وَالْحق: صِحَّته، كَمَا قَالَه ابْن خُزَيْمَة، وَالْحَاكِم وَكَذَا الْقُرْطُبِيّ فِي شرح مُسلم. أَو حسنه، كَمَا قَالَ البُخَارِيّ.
وَيَكْفِينَا فِي يَحْيَى بن الْوَلِيد قَول النَّسَائِيّ، وَكَذَلِكَ فِي مَحل بن خَليفَة قَول ابْن معِين وَأبي حَاتِم، وَقد أخرج لَهُ مَعَ ذَلِك البُخَارِيّ فِي صَحِيحه.
فَائِدَة: قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لَا أعرف اسْم أبي السَّمْح هَذَا، وَلَا أعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. وَذكر هَذَا الحَدِيث ابْن الْجَوْزِيّ فِي آخر جَامع المسانيد فِي تَرْجَمَة من عرف بكنيته وَلم يعرف اسْمه.
قُلْتُ: قد تقدَّم أَن الْحَافِظ بَقِي بن مخلد قَالَ: إِن لَهُ حَدِيثا آخر. وَفِي تَهْذِيب الْكَمَال للشَّيْخ جمال الدَّين الْمزي أَنه رَوَى أَيْضا حديثين:
أَحدهمَا: «كنت خَادِم النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يغْتَسل قَالَ: وَلِّني قفاك. واستتر بِالثَّوْبِ»، ثمَّ ذكر الثَّانِي: «كَانَ يجاء بالْحسنِ- أَو الْحُسَيْن- فيبول عَلَى صَدره، فأرادوا أَن يغسلوه، فَقَالَ: رشوه، فإنَّه يغسل من بَوْل الْجَارِيَة، ويرش من بَوْل الْغُلَام». وَغير الشَّيْخ جمال الدَّين الْمزي ساقهما مساق حَدِيث واحدٍ، كَأبي دَاوُد وَغَيره.
وَأما اسْمه، فَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر، وجمال الدَّين الْمزي فِي الْأَطْرَاف: يُقَال إِن اسْمه إياد. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه معرفَة الصَّحَابَة: اسْمه مَالك. قَالَ: كَذَا سَمَّاه يَحْيَى بن يُونُس.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن لبَابَة بنت الْحَارِث، قَالَت: «كَانَ الْحُسَيْن بن عَلّي فِي حجر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبَال عَلَيْهِ، فَقلت: البس ثوبا جَدِيدا، وَأَعْطِنِي إزارك حتَّى أغسله. فَقَالَ: إنَّما يُغْسل من بَوْل الْأُنْثَى، ويُنْضح من بَوْل الذّكر».
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح. قَالَ: ولبابة هِيَ بنت الْحَارِث الْكُبْرَى، أمهَا هِنْد، ولدت من الْعَبَّاس سِتَّة: الْفضل، وَعبد الله، وَعبيد الله، ومعبدًا، وَعبد الرَّحْمَن، وقُثَم.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي أكبر معاجمه من رِوَايَة قَابُوس بن الْمخَارِق، عَن أَبِيه، عَن لبَابَة أَيْضا.
وَهَذِه لَا تَقْتَضِي انْقِطَاعًا فِي طَرِيق الأول، فإنَّ فِيهَا أَبُو مَالك النَّخعِيّ، وَقد تَقَدَّم أَنه ضَعِيف.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: قَابُوس هَذَا رَوَى عَن أم الْفضل بنت الْحَارِث- يَعْنِي لبَابَة الْمَذْكُورَة- وَسمع من أَبِيه، وَأَبوهُ سمع من رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أم كرز الْخُزَاعِيَّة الْكَعْبِيَّة رَضِي اللهُ عَنْهُا قَالَت: «أُتِيَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بصبي فَبَال عَلَيْهِ، فَأَمَر بِهِ فنضح، وأُتِيَ بِجَارِيَة فَبَالت عَلَيْهِ، فأَمَرَ بِهِ فَغسل».
رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي مُسْنده، وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه، بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَابْن مَاجَه فِي سنَنه، وَلَفظه: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «بَوْل الْغُلَام ينضح، وَبَوْل الْجَارِيَة يغسل».
قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع؛ لِأَن عَمْرو بن شُعَيْب لم يدْرك أم كرز.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أُم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «يُنضح بَوْل الْغُلَام، ويُغسل بَوْل الْجَارِيَة».
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم، عَن الْحسن، عَن أمه، عَنْهَا. وإِسْمَاعِيل هَذَا يُحتمل أَن يكون الْمَكِّيّ، وَأَن يكون الْعَبْدي، فإنَّ كلا مِنْهُمَا يروي عَن الْحسن، فَإِن يكن الأول فضعيف، وإنْ يكن الثَّانِي فَثِقَة.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط بالسند الْمَذْكُور بِلَفْظ: «إِذا كَانَ الْغُلَام لم يطعم الطَّعَام صب عَلَى بَوْله، وَإِذا كَانَت الْجَارِيَة غسل».
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث هشيم، عَن يُونُس، عَن الْحسن، عَن أمه عَنْهَا: «أَن الْحسن- أَو الْحُسَيْن- بَال عَلَى بطن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَهَبُوا ليأخذوه، فَقَالَ: لَا تُزْرِموا ابْني- أَو وَلَا تعجلوه- فَتَركه حتَّى قَضَى بَوْله، فَدَعَا بِمَاء...» الحَدِيث.
وَرَوَاهُ أَبُو يعْلى الْموصِلِي فِي مُسْنده من حَدِيث الْمُبَارك بن فضَالة، عَن الْحسن بِلَفْظ: «يُصَبُّ عَلَيْهِ المَاء مَا لم يطْعَم، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل غسلا طُعِمَتْ أَو لَمْ تُطْعَم».
وَذكره ابْن عبد الْبر مَوْقُوفا عَلَيْهَا، فإنَّه قَالَ: أولَى وَأحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب مَا قالته أم سَلمَة، قَالَت: «بَوْل الْغُلَام يُصب عَلَيْهِ المَاء صبا، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل، طعمت أَو لم تطعم» ذكره الْبَغَوِيّ.
الطَّرِيق السَّادِس: عَن نَافِع، عَن أنس بن مَالك، قَالَ: «بَينا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم راقدٌ فِي بعض بيوته، عَلَى قَفاهُ، إذْ جَاءَ الْحسن يدرج، حتَّى قعد عَلَى صدر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ بَال عَلَى صَدره، فَجئْت أميطه عَنهُ، فَقَالَ: وَيحك يَا أنس، دعْ ابْني، وَثَمَرَة فُؤَادِي، فإنَّ من آذَى هَذَا فقد آذَانِي، وَمن آذَانِي فقد آذَى الله. ثمَّ دَعَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَاء، فصبَّه عَلَى الْبَوْل صَبًّا، فقَالَ: يُصبُّ عَلَى بَوْل الْغُلَام، ويُغسل بَوْل الْجَارِيَة».
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَنَافِع هَذَا: هُوَ أَبُو هُرْمُز، قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِثِقَة.
الطَّرِيق السَّابِع: عَن زَيْنَب بنت جحش، قَالَت: «تَقَيَّل النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِي، إِذْ أقبل الْحُسَيْن، وَهُوَ غُلَام، حتَّى جلس عَلَى بطن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ وضع ذَكَرَه فِي سُرَّتِه، قَالَت: فقمتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِمَاء. فَأَتَيْته بِمَاء، فصبَّه عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: يُغسل من بَوْل الْجَارِيَة، ويُصب عَلَيْهِ من الْغُلَام». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَفِيه لَيْث بن أبي سليم، عَن حدمر، وَالْأول عرفت حَاله، وَالثَّانِي لَا أعرفهُ، قَالَ فِي الْمِيزَان فِي حَقه: لَيْسَ بمقنع.
الطَّرِيق الثَّامِن: عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن أبي مجلز، عَن حُسَيْن بن عَلّي- أَو ابْن حُسَيْن بن عَلّي-: حدَّثتنا امْرَأَة من أهلنا، قَالَت: «بَينا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَلْقِيا عَلَى ظَهره، يلاعب صَبيا عَلَى صَدره، إذْ بَال، فَقَامَتْ لتأخذه وتضربه، قَالَ: دعيه، ائْتُونِي بكوز من مَاء. فنضح المَاء عَلَى الْبَوْل، حَتَّى تفايض المَاء عَلَى الْبَوْل، فَقَالَ:
هَكَذَا يصنع بالبول، يُنضح من الذّكر، ويُغسل من الْأُنْثَى»
.
رَوَاهُ أَحْمد بن منيع فِي مُسْنده، ثَنَا ابْن علية، حَدَّثَنَا عمَارَة بِهِ. أَفَادَهُ الشَّيْخ فِي الإِمام.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه التَّحْقِيق: وَرَوَى حَدِيث بَوْل الْغُلَام أَيْضا: ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَزَيْنَب رَضِي اللهُ عَنْهُم.
ولَمَّا ذكر ابْن السكن فِي صحاحه حَدِيث أبي السَّمْح، قَالَ: وَعَن أم الْفضل عَنهُ مثله. ثمَّ ذكر حَدِيث عَلّي.
وَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم فِي مَنَاقِب الْحُسَيْن، عَن أم الْفضل، ذكر عَنْهَا حَدِيثا، وَفِي آخِره: «قَالَ ابْن عَبَّاس: بَوْل الْغُلَام الَّذِي لم يَأْكُل يُرش، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل». ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث قد رُوِيَ بأسانيد، لم يخرجَاهُ.
وَرَوَى ابْن مَاجَه بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي الْيَمَان الْمصْرِيّ قَالَ: سَأَلت الشَّافِعِي عَن مَعْنَى هَذَا الحَدِيث «يُرش من بَوْل الْغُلَام، ويُغسل من بَوْل الْجَارِيَة». والماءان جَمِيعًا وَاحِد؟ قَالَ: لِأَن بَوْل الْغُلَام من المَاء والطين، وَبَوْل الْجَارِيَة من اللَّحْم وَالدَّم، لِأَن الله لما خلق آدم، خُلقت حَوَّاء من ضلعه الْقصير، فَصَارَ بَوْل الْغُلَام من المَاء والطين، وَصَارَ بَوْل الْجَارِيَة من اللَّحْم وَالدَّم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه- بعد أَن رَوَى مَا ورد فِي الْفرق بَين بَوْل الْجَارِيَة وَبَوْل الْغُلَام-: والْأَحَادِيث المسندة فِي الْفرق بَينهمَا، إِذا ضُمَّ بَعْضهَا إِلَى بعض قَوِيت. قَالَ: وَكَأَنَّهَا لم تثبت عِنْد الشَّافِعِي حِين. قَالَ: وَلَا يتَبَيَّن لي فِي بَوْل الصَّبِي وَالْجَارِيَة فرق من السّنة. قَالَ: وَإِلَى مثل هَذَا ذهب البُخَارِيّ وَمُسلم، حَيْثُ لم يُودِعَا شَيْئا مِنْهَا فِي «كِتَابَيْهِمَا» إلاَّ أَن البُخَارِيّ اسْتحْسنَ حَدِيث أبي السَّمْح، وصَوَّب هشامًا فِي رفع حَدِيث عليّ. قَالَ: وَمَعَ ذَلِك فِعْل أم سَلمَة صَحِيح عَنْهَا، مَعَ مَا سبق من الْأَحَادِيث الثَّابِتَة. يَعْنِي الَّتِي رَوَاهَا فِي الرش عَلَى بَوْل الصَّبِي.
وَذكر فِي خلافياته حَدِيث عَلّي، وَقَول الْحَاكِم فِيهِ، وَحَدِيث أم سَلمَة، ثمَّ قَالَ: قد صَحَّ عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ عَن عَلّي وَأم سَلمَة، وَلَا يُعْرفُ لَهما من الصَّحَابَة مخالفٌ.

.الحديث الحَادِي وَالْعشْرُونَ:

عَن أم قيس بنت مُحصن رَضِي اللهُ عَنْهُا: «أَنَّهَا أَتَت إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِابْن لَهَا لم يبلغ أَن يَأْكُل الطَّعَام، فَبَال فِي حِجْر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَعَا بِمَاء، فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبه، وَلم يغسلهُ غسلا».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: «لم يَأْكُل الطَّعَام»، وَهِي الَّتِي ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب.
وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مَاجَه، بِإِسْنَاد جيد: «فرشَّ عَلَيْهِ» بدل: «فنضحه عَلَى بَوْله».
وَرَوَى الشَّيْخَانِ مثله من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا، قَالَت: «أُتِيَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بصبي، فَبَال عَلَى ثَوْبه، فَدَعَا بِمَاء، فنضحه وَلم يغسلهُ».
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: فِي اسْم أم قيس قَولَانِ: أَحدهمَا: آمِنَة بنت وهب بن مُحصن، قَالَه السُّهيْلي. الثَّانِي: جذامة، قَالَه ابْن عبد الْبر، وَقد سبقا فِي الحَدِيث السَّادِس عشر.
الثَّانِيَة: لَا أعلم أحدا من الْحفاظ ذكر اسْم ابْن أم قيس، وَأما الصَّبِي الْمَذْكُور فِي حَدِيث عَائِشَة، فحكي عَن شَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي- قَدَّس الله روحه- أَنه قَالَ: يُحتمل أَن يكون الصَّبِي الْمَذْكُور عبد الله بن الزبير. وأيَّده بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن عَطاء، عَن عَائِشَة، قَالَت: «بَال ابْن الزبير عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخَذته أخذا عنيفًا، فَقَالَ: إِنَّه لم يَأْكُل الطَّعَام، وَلَا يضر بَوْله».
الْحجَّاج بن أَرْطَاة: ضَعِيف ومدلِّس. وَقد عنعن فِي هَذِه الرِّوَايَة.
قَالَ: ويُحتمل أَن يكون الْحسن رَضِي اللهُ عَنْهُ. وأيَّده بِمَا رَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير بِإِسْنَادِهِ عَن أم الْفضل «أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن بَضْعَةً من جسدك قُطعت، فَوضعت فِي حجري. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: خيرا رأيتِ، تَلد فَاطِمَة- إِن شَاءَ الله- غُلَاما فَيكون فِي حجرك. فَولدت فَاطِمَة رَضِي اللهُ عَنْهُ حسنا، فَكَانَ فِي حجرها، فَدخلت بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَال عَلَيْهِ، فذهبتُ أتناوله، فَقَالَ: دعِي ابْني، إنَّه لَيْسَ بِنَجس. ثمَّ دَعَا بِمَاء فصبَّه عَلَيْهِ». إِسْنَاده جيد.
قُلْتُ: وَيحْتَمل قولا ثَالِثا: وَهُوَ أَن يكون الْحُسَيْن رَضِي اللهُ عَنْهُ ويؤيِّده مَا رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُ عَن أم الْفضل، قَالَت: «دخل عليَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أُرضع الْحُسَيْن بن عَلّي بِلَبن ابنٍ كَانَ يُقَال لَهُ: قثم. قَالَت: فتناوله رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فناولته إِيَّاه، فَبَال عَلَيْهِ. قَالَت: فَأَهْوَيْت بيَدي إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تزرمي ابْني. قَالَت: فرشَّه بِالْمَاءِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: بَوْل الْغُلَام الَّذِي لم يَأْكُل يُرش، وَبَوْل الْجَارِيَة يُغسل». قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث قد رُوي بأسانيد، وَلم يخرجَاهُ. وَذكر ذَلِك فِي تَرْجَمَة الْحُسَيْن بِالْيَاءِ رَضِي اللهُ عَنْهُ فَسَلِمَ من ادِّعَاء التَّصْحِيف بالْحسنِ مُكَبَّرًا.
ثمَّ رَأَيْت بعد ذَلِك مثله فِي مُسْند أَحْمد، وسنَن أبي دَاوُد، والدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيرهمَا كَمَا تقدم.

.الحديث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا وَلَغَ الكلبُ فِي إناءِ أحدكُم فَلْيُرِقْه، وليغسله سبعا، أولَاهُنَّ- أَو إِحْدَاهُنَّ- بِالتُّرَابِ».
هَذَا الحَدِيث أصل من الْأُصُول الْمُعْتَمد عَلَيْهَا، وَهُوَ مَشْهُور، فلنذكره من جَمِيع طرقه، فَنَقُول: رَوَى البُخَارِيّ، وَمُسلم، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا شرب الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغسله سبع مَرَّات».
وَرَوَاهُ كَذَلِك قبلهمَا مَالك فِي الْمُوَطَّأ.
قَالَ ابْن عبد الْبر: كَذَا قَالَ مَالك فِي هَذَا الحَدِيث: «إِذا شرب» وَغَيره من الروَاة يَقُولُونَ: «إِذا ولغَ». وَهُوَ الَّذِي يعرفهُ أهل اللُّغَة.
وَكَذَا استغربَ هَذِه اللَّفْظَة الحافظان، أَبُو بكر الإِسماعيلي فِي صَحِيحه، والحافظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه.
وَقد تَابع مَالِكًا عَلَى لَفظه: «إِذا شرب»: الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن وورقاء بن عمر، عَن أبي الزِّنَاد؛ رَوَى الطَّرِيق الأول أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ، وَالثَّانِي أَبُو بكر الجوزقي فِي كِتَابه.
وَرَوَاهُ أَيْضا هِشَام بن حسان، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه أَيْضا «إِذا شرب».
وَقد اختُلف عَلَى مَالك فِي لفظ «الشّرْب»، و«الولوغ» وَالْمَشْهُور عَنهُ، مَا قَالَ أَبُو عمر. أَفَادَ ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليرقه، ثمَّ ليغسله سبع مرارٍ».
قَالَ ابْن مَنْدَه: وَهَذِه الزِّيَادَة- وَهِي: «فليرقه»- تَفَرَّد بهَا عَلّي بن مسْهر، وَلَا تُعْرف عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَجْه من الْوَجْه إلاَّ من هَذِه الرِّوَايَة.
قُلْتُ: وَلَا يضرّ تفرُّده بهَا، فإنَّ عَلّي بن مسْهر إِمَام حَافظ، متَّفق عَلَى عَدَالَته والاحتجاج بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ- بعد تَخْرِيجه لَهَا- الدَّارَقُطْنِيّ: إسنادها حسن، ورواتها ثِقَات.
وأخرجها إِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، وَلَفظه: «فليهرقه».
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب، أَن يغسلهُ سبع مَرَّات، أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الإِناء، فاغسلوه سبع مَرَّات، السَّابِعَة بِالتُّرَابِ». ورجالها ثِقَات. كَمَا قَالَه صَاحب الإِمام.
وَفِي رِوَايَة صَحِيحَة للشَّافِعِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ: «أُولاهن- أَو أُخراهن- بِالتُّرَابِ».
وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: «أُولاهن- أَو قَالَ: أولهنَّ- بِالتُّرَابِ»، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَفِي رِوَايَة للبزار: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الإِناء، يُغسل سبع مَرَّات، آخِره بِالتُّرَابِ».
وَفِي رِوَايَة للدارقطني وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا فِي الْكَلْب يلغ فِي الْإِنَاء: «أَنه يُغسل ثَلَاثًا، أَو خمْسا، أَو سبعا».
وَهِي ضَعِيفَة، بَيَّن الْبَيْهَقِيّ ضعفها وَاضحا فِي سنَنه، وخلافياته.
وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث عبد الله بن مُغفل مَرْفُوعا: «إِذا وَلَغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فاغسلوه سبعا، وعَفِّرُوه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ».
وَقَالَ ابْن مَنْدَه: إِسْنَاده مُجْمَع عَلَى صحَّته.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق: انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. وَهُوَ سبق قلم مِنْهُ قطعا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَن يكْتب: انْفَرد بِهِ مُسلم، فَسبق الْقَلَم إِلَى البُخَارِيّ، فليصلح.
وَرَدَّ الْبَيْهَقِيّ هَذِه الرِّوَايَة بِأَن قَالَ: أَبُو هُرَيْرَة أَحْفَظ من رَوَى الحَدِيث فِي دهره، فروايته أَولى.
وَأما الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف- وَهِي: «أُولاهن أَو إِحْدَاهُنَّ»- بِالْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ- فَغَرِيبَة.
وَقد أخرجهَا كَذَلِك- عَلَى مَا وجدته خطا- أَبُو عبيد فِي كِتَابه الطّهُور عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، عَن أَيُّوب، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا وَلَغَ الْكَلْب فِي الإِناء، غُسل سبع مَرَّات، أُولاهن أَو إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَهَذِه الرِّوَايَة سندها كسند الشَّافِعِي فِي رِوَايَة: «أُولاهن أَو أُخراهن»، فإنَّ الشَّافِعِي أخرجهَا فِي مُسْنده عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أَيُّوب بِهِ. فَيتَوَقَّف حينئذٍ فِي لفظ: «إِحْدَاهُنَّ» بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَيُقَال: لَعَلَّهَا «أُخراهن» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، لِأَن السَّنَد وَاحِد، وَقد يقُال: لَا يلْزم ذَلِك؛ لِأَن التِّرْمِذِيّ أخرج بِهَذَا السَّنَد- أَعنِي طَرِيق أَيُّوب- رِوَايَته السالفة: «أُولاهن، أَو قَالَ: أولهنَّ»، فابحث عَن ذَلِك.
نعم، رِوَايَة: «إِحْدَاهُنَّ»- من غير شكّ- مَشْهُورَة، مَوْجُودَة من ثَلَاث طرق- وَقد ذكرهَا الرَّافِعِيّ بعد هَذَا وَحدهَا-:
الأول: رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث مَحْمُود بن مُحَمَّد الْمروزِي، نَا الْخضر بن أَصْرَم، نَا الْجَارُود، عَن إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن هُبَيْرَة بن يريم، عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضِي اللهُ عَنْهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا وَلَغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغسله سبع مَرَّات، إِحْدَاهُنَّ بالبطحاء».
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب: هَذِه الرِّوَايَة لَيست فِي الصَّحِيح وَلَا فِي الْكتب الْمُعْتَمدَة، رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَهِي غَرِيبَة.
قُلْتُ: وَمَعَ غرابتها، فَفِي إسنادها جمَاعَة يجب معرفَة حَالهم:
أحدهم: الْخضر بن أَصْرَم، لَا أعرفهُ، وَلم أره فِي كتاب ابْن أبي حَاتِم، وَلَا غَيره.
الثَّانِي: الْجَارُود، وَهُوَ ابْن يزِيد، أَبُو عَلّي النَّيْسَابُورِي، مَتْرُوك الحَدِيث بإجماعهم.
الثَّالِث: هُبَيْرَة بن يريم، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُبَيْرَة هَذَا شَبيه بالمجهولين. وَقَالَ ابْن حزم فِي محلاه فِي كتاب الْحَضَانَة: مَجْهُول. وَقَالَ ابْن سعد: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ ابْن خرَاش: ضَعِيف. وَقَالَ الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي أَحْكَامه- مُعْتَرضًا عَلَى أبي حَاتِم الرَّازِيّ فِي قَوْله السالف-:
قد صَحَّح التِّرْمِذِيّ حديثين من طَرِيقه، ووثَّقه ابْن حبَان. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فإنَّه ذكره فِي ثقاته وَقَالَ: رَوَى عَنهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي. وَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: رَوَى عَنهُ أَيْضا أَبُو فَاخِتَة. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَلم يَرْوِ عَنهُ غَيرهمَا. وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ، هُوَ أحبّ إِلَيْنَا من الْحَارِث.
فَإِذن ارْتَفَعت عَنهُ جَهَالَة الْعين وَالْحَال، فلولا مَا مَضَى، لَكَانَ حسنا.
أما مَحْمُود بن مُحَمَّد الْمروزِي السَّابِق: فقد ذكره الْخَطِيب فِي تَارِيخه وحَسَّن حَاله.
الطَّرِيق الثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو بكر الْبَزَّار فِي مُسْنده من حَدِيث أبي هِلَال الرَّاسِبِي، وَيزِيد بن إِبْرَاهِيم، عَن مُحَمَّد، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، ليغسله سبع مَرَّات، إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَأَبُو هِلَال الرَّاسِبِي اسْمه مُحَمَّد بن سليم، بَصرِي، وَلم يكن من بني راسب، وإنَّما نزل فيهم، رَوَى لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَفِيه مقَال، كَانَ يَحْيَى بن سعيد لَا يعبأ بِهِ، وَقَالَ يزِيد بن زُرَيْع: عَدَلت عَنهُ عمدا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. ووثَّقه أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْن معِين: صَدُوق.
الطَّرِيق الثَّالِث: رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي مُسْنده، عَن عباد بن يَعْقُوب، عَن الْوَلِيد بن أبي ثَوْر، عَن السُّدي، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا وَلَغ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم، فليغسله سبع مَرَّات- أَحْسبهُ قَالَ-: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وعَبَّاد بن يَعْقُوب هَذَا هُوَ الراوجني، أخرج لَهُ البُخَارِيّ مَقْرُونا، وَقَالَ ابْن حبَان: هُوَ رَافِضِي دَاعِيَة. والوليد بن أبي ثَوْر ضَعَّفه النَّسَائِيّ وَغَيره. والسُّدي هُوَ إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن، مُخْتَلَف فِيهِ، وثَّقه أَحْمد، وضعَّفه ابْن معِين، ورُمي بالتشيع، وَهُوَ السُّدي الْكَبِير، صَاحب التَّفْسِير، وَأما السُّدي الصَّغِير فَهُوَ مُحَمَّد بن مَرْوَان، يروي عَن الْأَعْمَش، وَهُوَ مُتَّهم هَالك. ووالده: لَا أعرف حَاله، وَقد أخرج لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ.
ثمَّ اعْلَم أَن مُقْتَضَى كَلَام النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْمسَائِل المنثورة ثُبُوت هَذِه اللَّفْظَة- أَعنِي لَفْظَة: «إِحْدَاهُنَّ»- وَقد عرفت حَاله، وَكَلَامه فِيهَا فِي شرح الْمُهَذّب كَمَا سلف.

.الحديث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ:

قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الهِرَّة: «إنّها لَيست بنجسة، إنَّها من الطوافين عَلَيْكُم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح مَشْهُور، رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، حُفَّاظ الإِسلام: مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد، والدارمي، فِي مسانيدهم، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمْ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن، والْمعرفَة. من رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِي اللهُ عَنْهُ.
وَليكن كلامنا عَلَى هَذَا الحَدِيث مُلَخصا فِي ثَلَاثَة فُصُول:
الأول: فِيمَن صحَّحه، وشُبْهَة من أعلَّه قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيهِ: إِنَّه حَدِيث حسن صَحِيح وَإنَّهُ أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب، وَإِن مَالِكًا جَوَّد إِسْنَاده عَن إِسْحَاق بن عبد الله، وَأَن أحدا لم يأتْ بِهِ أتم مِنْهُ. قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ، فَقَالَ: جَوَّده مَالك بن أنس، وَرِوَايَته أصحّ من رِوَايَة غَيره.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، عَلَى أَنَّهُمَا قد استشهدا جَمِيعًا بِمَالك بن أنس، وَأَنه الحكم فِي حَدِيث الْمَدَنِيين، وَهَذَا الحَدِيث ممَّا صحَّحه مَالك واحتجَّ بِهِ فِي الْمُوَطَّأ وَمَعَ هَذَا فَلهُ شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح: نَا أَبُو عبد الله القَاضِي ببخارا ثَنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب، أَنا مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ، نَا سُلَيْمَان بن مسافع بن شيبَة الحَجبي، قَالَ: سَمِعت مَنْصُور بن صَفَيَّة بنت شيبَة يحدِّث عَن أمه صَفِيَّة، عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إنَّها لَيست بِنَجس، هِيَ كبعض أهل الْبَيْت- يَعْنِي الْهِرَّة».
وَهَذَا الشَّاهِد الَّذِي اسْتشْهد بِهِ الْحَاكِم أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه، وَلَفظه: «هِيَ كبعض مَتَاع الْبَيْت- يَعْنِي الْهِرَّة». وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرَّد بِهِ سُلَيْمَان بن مسافع. قُلْتُ: ذكره الْعقيلِيّ فِي الضُّعَفَاء قَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر فِي كِتَابه معرفَة السّنَن والْآثَار فِي حَدِيث أبي قَتَادَة: إِسْنَاده صَحِيح والاعتماد عَلَيْهِ.
وصحَّحه أَيْضا الإِمامان أَبُو بكر بن خُزَيْمَة، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان، فَإِنَّهُمَا أَخْرجَاهُ فِي صَحِيحَيْهِمَا كَمَا قدَّمناه عَنْهُمَا.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح ثَابت.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله طرقه، ثمَّ قَالَ: رُوي مَرْفُوعا وموقوفًا. قَالَ: وَرَفعه صَحِيح. قَالَ: ولعلَّ من وَقفه لم يسْأَل أَبَا قَتَادَة: هَل عِنْده عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ أثر أم لَا؟ لأَنهم حَكوا فعل أبي قَتَادَة حسب. قَالَ: وأحسنها إِسْنَادًا مَا رَوَى مَالك، عَن إِسْحَاق، عَن امْرَأَته، عَن أمهَا، عَن أبي قَتَادَة، وحَفِظَ أَسمَاء النِّسَاء وأنسابهن وجَوَّد ذَلِك، وَرَفعه إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَخَالف الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ- بعد أَن أخرجه من رِوَايَة مَالك فِي الْمُوَطَّأ، ثمَّ ذكر اخْتِلَاف رواياته-: أم يَحْيَى اسْمهَا حميدة، وخالتها هِيَ كَبْشَة، وَلَا يُعرف لَهما رِوَايَة إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث، ومحلهما مَحل الْجَهَالَة، وَلَا يثبت هَذَا الْخَبَر من وَجه من الْوُجُوه وسبيله سَبِيل الْمَعْلُول.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي شرح الإِلمام: جَرَى ابْن مَنْدَه عَلَى مَا اشْتهر عَن أهل الحَدِيث أَنه من لَمْ يَرْوِ عَنهُ إلاَّ وَاحِد، فَهُوَ مَجْهُول.
قَالَ: ولعلَّ من صحَّحه اعْتمد عَلَى كَون مَالك رَوَاهُ وَأخرجه، مَعَ مَا عُلِمَ من تشدُّده وتحرِّيه فِي الرِّجَال، وَأَن كل من رَوَى عَنهُ فَهُوَ ثِقَة، كَمَا صحَّ عَنهُ. ونقلناه فِي مُقَدمَات هَذَا الْكتاب.
قَالَ: فإنْ سلكت هَذَا الطَّرِيق فِي تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث- أَعنِي عَلَى تَخْرِيج مَالك لَهُ- وإلاَّ فَالْقَوْل مَا قَالَ ابْن مَنْدَه، وَقد ترك الشَّيْخَانِ إِخْرَاجه فِي صَحِيحَيْهِمَا.
وَقَالَ فِي الإِمام: إِذا لم يعرف لحميدة وكبشة رِوَايَة إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث، فلعلَّ طَرِيق من صحَّحه أَن يكون اعْتمد عَلَى إِخْرَاج مَالك لروايتهما، مَعَ شهرته بالتشدُّد.
وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح ابْن سيد النَّاس الْيَعْمرِي: بَقِيَ عَلَى ابْن مَنْدَه أَن يَقُول: وَلم يُعْرَفْ حَالهمَا من جارح، فكثير من رُواة الْأَحَادِيث مقبولون.
قُلْتُ: هَذَا لابد مِنْهُ، وَأَنا أستبعد كل الْبعد توارد الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين عَلَى تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث، مَعَ جهالتهم بِحَال حميدة وكبشة، فإنَّ الإِقدام عَلَى التَّصْحِيح- وَالْحَالة هَذِه- لَا يحلُّ بِإِجْمَاع الْمُسلمين، فلعلهم اطَّلَعوا عَلَى حَالهمَا، وخفي علينا.
قَالَ النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد»: وَهَذَا الحَدِيث عِنْد أبي دَاوُد حسنٌ، وَلَيْسَ فِيهِ سَبَب مُحَقّق فِي ضعفه.
قُلْتُ: وَقد ظهر أَن جَمِيع مَا عَلَّله بِهِ ابْن مَنْدَه- وتُوبع عَلَيْهِ- فِيهِ نظر.
أما قَوْله: «إِن حُميدة لَا تُعرف لَهَا رِوَايَة إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث» فخطأ، فلهَا ثَلَاثَة أَحَادِيث، أَحدهَا: هَذَا. وَثَانِيها: حَدِيث «تشميت الْعَاطِس» أخرجه أَبُو دَاوُد مُصَرحًا باسمها، وَالتِّرْمِذِيّ مُشِيرا إِلَيْهِ، فإنَّه قَالَ: عَن عمر بن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، عَن أمه، عَن أَبِيهَا. وحَسَّنه التِّرْمِذِيّ عَلَى مَا نَقله ابْن عَسَاكِر فِي أَطْرَافه وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ: أَنه حَدِيث غَرِيب، وَإِسْنَاده مَجْهُول.
وَثَالِثهَا: حَدِيث «رِهان الْخَيل طِلْق»، رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي معرفَة الصَّحَابَة من حَدِيث يَحْيَى بن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، عَن أمه، عَن أَبِيهَا مَرْفُوعا بِهِ.
وَأما قَوْله فِي «كَبْشَة» فَكَمَا قَالَ، فَلم أَرَ لَهَا حَدِيثا آخر، وَلَا يَضرهَا ذَلِك فإنَّها ثِقَة كَمَا سَيَأْتِي.
وَأما قَوْله: إِن مَحلهمَا الْجَهَالَة فخطأ، أمَّا حُميدة فقد رَوَى عَنْهَا إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، رَاوِي حَدِيث «الْهِرَّة» وَابْنه يَحْيَى فِي حَدِيث «تشميت الْعَاطِس» من طَرِيق أبي دَاوُد، وَقد وَثَّقه ابْن معِين.
وَفِي طَرِيق التِّرْمِذِيّ أَن الرَّاوِي عَنْهَا ابْنهَا عمر بن إِسْحَاق، فَإِن لم يكن غَلطا، فَهُوَ ثَالِث، وَهُوَ أَخُو يَحْيَى.
وَذكرهَا ابْن حبَان فِي ثقاته فقد زَالَت عَنْهَا الْجَهَالَة العينية والحالية.
وَأما كَبْشَة فَلم أعلم رَوَى عَنْهَا غير حُميدة، لَكِن ذكرهَا ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَقد قَالَ ابْن الْقطَّان: إِن الرَّاوِي إِذا وثق زَالَت جهالته، وَإِن لم يَرْوِ عَنهُ إلاَّ وَاحِد.
وَأَعْلَى من هَذَا أَنَّهَا صحابية، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي ثقاته وَكَذَا نَقله أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ عَن جَعْفَر.
وَأما قَوْله: وَلَا يثبت هَذَا الْخَبَر بِوَجْه من الْوُجُوه. فخطأ، فقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَاد فَقَالَ: ثَنَا مُوسَى بن هَارُون، ثَنَا عمر بن الْهَيْثَم بن أَيُّوب الطَّالقَانِي، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن أَسِيْد بن أبي أسيد، عَن أَبِيه: «أنَّ أَبَا قَتَادَة كَانَ يُصْغِي الإِناء للهرة، فَتَشرب مِنْهُ، ثمَّ يتَوَضَّأ بفضلها، فَقيل لَهُ: أتتوضأُ بفضلها؟! فَقَالَ: إنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّها لَيست بِنَجس، إنَّما هِيَ من الطوَّافين عَلَيْكُم».
فَهَذِهِ مُتَابعَة لكبشة، وَهَذَا سَنَد لَا أعلم بِهِ بَأْسا.
فقد اتَّضَح وَجه تَصْحِيح الْأَئِمَّة لهَذَا الحَدِيث، وَخطأ معلله، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، فاستفده فإنَّه من الْمُهِمَّات.
الْفَصْل الثَّانِي: فِي ذكر أَلْفَاظه، وَاخْتِلَاف طرقه فإنَّ الْحَاجة تشتد إِلَى ذَلِك؛ لِأَنَّهُ عُمْدَة مَذْهَبنَا فِي طَهَارَة سُؤْر السبَاع، وَسَائِر الْحَيَوَان غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَفرع أَحدهمَا، فَنَقُول:
لفظ رِوَايَة مَالك: عَن إِسْحَاق بن عبد الله، عَن حُميدة بنت أبي عُبَيْدَة بن فَرْوَة، عَن خَالَتهَا كَبْشَة ابْنة كَعْب بن مَالك- وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة- أَنَّهَا أخْبرتهَا: «أَن أَبَا قَتَادَة دخل عَلَيْهَا، فَسَكَبت لَهُ وضُوءًا، فَجَاءَت هرة لتشرب مِنْهُ، فأصغى لَهَا الإِناء حتَّى شربت، قَالَت كَبْشَة: فرآني أنظر إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنة أخي؟ قَالَت: قُلْتُ: نعم. فَقَالَ: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّها لَيست بِنَجس، إنَّما هِيَ من الطوَّافين عَلَيْكُم، أَو الطوافات».
هَذَا لفظ رِوَايَة مَالك بحروفها.
وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ مثلهَا سَوَاء، إلاَّ أَن رِوَايَة مَالك: «أَو الطوافات» بِأَو، وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ: «إنَّما هِيَ من الطوافين والطوافات» بِالْوَاو، وبحذف «عَلَيْكُم». وَرِوَايَة أَحْمد من طَرِيق مَالك كهذه، إلاَّ أَنه أثبت «عَلَيْكُم».
وَرِوَايَة ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، كَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ، إلاَّ أَن فِي روايتهما إِثْبَات «عَلَيْكُم»، وَابْن خُزَيْمَة كَذَلِك.
وَفِي روايتي الدَّارمِيّ وَأبي دَاوُد: عَن كَبْشَة بنت كَعْب بن مَالك- وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة- ثمَّ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: «والطوافات»، وَفِي رِوَايَة الدَّارمِيّ: «أَو الطوافات» كَذَا نَقله النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب عَن مُسْند الدَّارمِيّ، وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ «والطوافات» كَرِوَايَة أبي دَاوُد بِحَذْف الْألف، وَفِيه: تَحت أبي قَتَادَة بِحَذْف ابْن.
وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: كَبْشَة بنت كَعْب، وَكَانَت تَحت بعض ولد أبي قَتَادَة، وفيهَا «والطوافات» بِالْوَاو.
وَرِوَايَة الرّبيع عَن الشَّافِعِي، عَن مَالك بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ فِي كَبْشَة: وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة، أَو أبي قَتَادَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الشَّك من الرّبيع. وَقَالَ فِيهِ «أَو الطوافات» بِأَو، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الرّبيع فِي مَوضِع آخر عَن الشَّافِعِي، ثمَّ قَالَ: وَكَانَت تَحت ابْن أبي قَتَادَة، وَلم يشك. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن الثِّقَة، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثلِهِ.
الْفَصْل الثَّالِث: فِي الْكَلَام عَلَى شَيْء من إِسْنَاده ومفرداته قَالَ الإِمام أَبُو عمر بن عبد الْبر: رَوَى هَذَا الحَدِيث يَحْيَى بن يَحْيَى، عَن مَالك، عَن إِسْحَاق، عَن حُميدة ابْنة أبي عُبَيْدَة بن فَرْوَة، عَن خَالَتهَا كَبْشَة... الحَدِيث. هَكَذَا قَالَ يَحْيَى: عَن حُميدة بنت أبي عُبَيْدَة، وَلم يُتَابِعه عَلَى قَوْله ذَلِك أحد، وَهُوَ غلط مِنْهُ، وَأما سَائِر رُوَاة الْمُوَطَّأ، فَيَقُولُونَ: ابْنة عبيد بن رِفَاعَة. إلاَّ أَن زيد بن الْحباب قَالَ فِيهِ عَن مَالك: حُميدة ابْنة عبيد بن رَافع. وَالصَّوَاب: رِفَاعَة، وَهُوَ رِفَاعَة بن رَافع الْأنْصَارِيّ.
قُلْتُ: وَهُوَ فِي صَحِيح ابْن حبَان من رِوَايَة القعْنبِي، عَن مَالك: حُميدة بنت عبيد بن رِفَاعَة ثمَّ قَالَ: وَانْفَرَدَ يَحْيَى بقوله: عَن خَالَتهَا. وَسَائِر رُوَاة الْمُوَطَّأ يَقُولُونَ: عَن كَبْشَة لَا يذكرُونَ خَالَتهَا.
واخْتُلِفَ فِي رفع الْحَاء، ونصبها من حُميدة وَأَشَارَ إِلَى أَن الْأَكْثَر ضمهَا، وتكنى حُميدة: أم يَحْيَى. وَهِي امْرَأَة إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة.
ذكر ذَلِك يَحْيَى الْقطَّان فِي هَذَا الحَدِيث عَن مَالك، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيهِ ابْن الْمُبَارك: عَن مَالك عَن إِسْحَاق، بِإِسْنَادِهِ مثله إلاَّ أَنه قَالَ: كَبْشَة امْرَأَة أبي قَتَادَة. وَهَذَا وهمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَة ابْن أبي قَتَادَة.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد أَنه وَقع فِي رِوَايَة مَالك وَالتِّرْمِذِيّ: تَحت أبي قَتَادَة وَقَالَ: هُوَ مجَاز مَحْمُول عَلَى الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة تَحت ابْنه.
وَرَأَيْت من وَهَّم النَّوَوِيّ فِي نَقله ذَلِك عَن الْمُوَطَّأ وَوَهِمَ هُوَ فِي ذَلِك، فَكَفَى بالنووي أَن يُوَافق نَقله مَا نَقله ابْن الْمُبَارك، لَكِن الْمَشْهُور من رِوَايَة مَالك فِي الْمُوَطَّأ: تَحت ابْن أبي قَتَادَة وَكَذَلِكَ هُوَ مَوْجُود فِي المُلَخَّص للقابسي فَافْهَم ذَلِك.
وَأما لَفْظَة: «أَو الطوافات» فَقَالَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَصَاحب الْمطَالع: يُحتمل أَن يكون عَلَى مَعْنَى الشَّك من الرَّاوِي، ويُحتمل أَن يكون النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك، يُرِيد أَن هَذَا الْحَيَوَان لَا يَخْلُو أَن يكون من جملَة الذُّكُور الطوافين أَو الإِناث الطوافات.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب هَذَا عَن صَاحب الْمطَالع وَحده، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَه مُحْتَمل. قَالَ: وَالْأَظْهَر أَنه للنوعين كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَات الْوَاو. قَالَ أهل اللُّغَة: الطوافون: الخدم والمماليك. وَقيل: هم الَّذين يخدمون بِرِفْق وعناية.
وَإِنَّمَا جَمَعَ الهرَّة بِالْيَاءِ وَالنُّون، مَعَ أَنَّهَا لَا تعقل، لِأَن المُرَاد أَنَّهَا من جنس الطوَّافين أَو الطوَّافات.
وَمَعْنى الحَدِيث: أَن الطوَّافين من الخدم وَالصغَار الَّذين سَقَطَ فِي حَقهم الْحجاب والاستئذان فِي غير الْأَوْقَات الثَّلَاثَة الَّتِي ذكرهَا الله- تَعَالَى- وإِنَّمَا سقط فِي حَقهم دون غَيرهم للضَّرُورَة، وَكَثْرَة مداخلتهم، بِخِلَاف الْأَحْرَار الْبَالِغين، وَكَذَا يُعْفَى عَن الْهِرَّة للْحَاجة، وَقد أَشَارَ إِلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنى أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه الأحوذي فِي شرح التِّرْمِذِيّ وَذكر الخطَّابي أَن هَذَا الحَدِيث مؤل عَلَى وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه شَبَّهها بخدم الْبَيْت وَمن يطوف عَلَى أَهله للْخدمَة.
وَالثَّانِي: شبهها بِمن يطوف للْحَاجة وَالْمَسْأَلَة، وَمَعْنَاهُ: الْأجر فِي مواساتها كالأجر فِي مواساة من يطوف للْحَاجة وَالْمَسْأَلَة.
وقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا الثَّانِي قد يأباه سِيَاق قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: «إِنَّهَا لَيست بِنَجس».
وَهُوَ كَمَا قَالَ، بل قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي شرح الإِلمام: إِنَّه غَرِيب بعيد.
فإنْ قُلْتَ: فالخدم وَالْعَبِيد لَا يُعفى عَن نَجَاسَة أَفْوَاههم؟
فَالْجَوَاب: أَن نَجَاسَة أَفْوَاههم تندر، وَلَا يشق الِاحْتِرَاز، وَفِي هَذَا بِخِلَافِهِ.
وَقَوْلها: «فسكبتُ لَهُ وَضوءًا» هُوَ بِفَتْح الْوَاو، وَهُوَ اسْم للْمَاء الَّذِي يُتَوضأ بِهِ، و«الوُضُوء» بِالضَّمِّ: اسْم للْفِعْل. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هَذِه اللُّغَة هِيَ قَول الْأَكْثَرين من أهل اللُّغَة.
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «إِنَّهَا لَيست بِنَجَس» هُوَ بِفَتْح الْجِيم، كَذَا قَيَّده غير وَاحِد، مِنْهُم: الْمُنْذِرِيّ فِي مُخْتَصر السّنَن، وَالنَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى أبي دَاوُد، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي شرح الإِلمام وَغَيرهم.
قَالَ الله- تَعَالَى-: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس}.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد المستنبطة مَا لَا يُستغنى عَنهُ، ذكرت بعضه هُنَا، لِئَلَّا يطول الْكتاب، وَيخرج عَن مَوْضُوعه، وَهَذَا الْقدر كَاف.
وَبَقِي أَمر مُهِمّ، وَرَاء هَذَا كُله، وَهُوَ أَن الإِمام الرَّافِعِيّ وَقع لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث نُكْتَة غَرِيبَة، وَهِي: أَنه جعل المُصْغِي الإِناء للهرة هُوَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وتَبِعَ فِي ذَلِك الْمُتَوَلِي من أَصْحَابنَا فإنَّه ذكر ذَلِك فِي تتمته وَالْمَعْرُوف أَنه أَبُو قَتَادَة- فَقَالَ مَا نَصه: سُؤْر الْهِرَّة طَاهِر؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَة الْعين، وَمَا هُوَ طَاهِر الْعين، فَهُوَ طَاهِر السؤر، وَلذَلِك لَمَّا تعجبوا من إصغاء النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِناء للهرة قَالَ: «إِنَّهَا لَيست بنجسة، إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم» جعل طَهَارَة الْعين عِلّة طَهَارَة السؤر. انْتَهَى، فَذكرت أَنا الحَدِيث بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوف فَافْهَم ذَلِك.
نعم، فِي سنَن الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن أبي قَتَادَة قَالَ: «كَانَ أَبُو قَتَادَة يُصْغِي الإِناء للهرة فَتَشرب، ثمَّ يتَوَضَّأ بِهِ، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: مَا صنعت إلاَّ مَا رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع». فقد يَقْتَضِي ظَاهر هَذَا مُوَافقَة مَا أوردهُ المُصَنّف.